الجمعة، 12 ديسمبر 2008

أمــــى8

أمــــى8
ظل أنسنا بالجلوس إليها أنسا بالحديث والسمر
أو سرد القصص و ضرب الأمثال ممزوجا بأنس القدوة الصالحة
فقبل أن تطلب إلينا الجلوس إلى المذاكرة أو القراءة و البحث تعد كتبها و مراجعها و أوراقها و تنظمها تنظيما دقيقا
يعجب من يراها شاخصة أمام عينيه أو من يرى سطورها الأنيقة المنمقة
فنحاكيها فى القراءة و التنميق والبحث و التدقيق ,

فلا تبذل جهدا فى دفعنا إلى المذاكرة
بل يبقى الجهد فى المتابعة و التوجيه
فمع انشغالها بالقراءة والكتابة لم تكن فى الحقيقة إلا منشغلة بنا
فما يتعسر معسر فى أمر إلا بادرت إليه قبل أن يطلب ,
وكأنها ترى بعينيها ما تقرؤه وترى بطرفها ما نطرقه .
صنعت لكل واحد منا مجلسه ومنضدته الخالية إلا مما يقرؤه أو يدونه فى دفتره
ترتفع أمام أعيننا لوحات ورقية لمعلومات علمية متنوعة
فكنا نحفظها و لما ندرسها بعد لمشاهدتنا لها صباح مساء
فهذه لوحة جسم الإنسان التى حُفرت صورتها فى أذهاننا
فلم يختلط علينا من جسم الإنسان شئ حينما بدأنا ندرسه
بل إن أخى الأكبر أرجع فضل حفظه لمكونات جسم الإنسان فى كلية الطب إلى فهمه إياها من تلك اللوحة الراسخة فى ذهنه ,

و تطل الأرفف فوق اللوحات ممتلئة بالمجلات العلمية والثقافية المصورة
وكأنها نسخة مصغرة من مكتبة المدينة .
لم يقتصر دورها فى غرس العلم على المذاكرة فى البيت
بل ظلت زياراتها لنا فى مدارسنا تتعاقب بشكل شبه دوري
فقبل أن نفتقدها تأتى الزيارة تلو الأخرى ,
حتى نشعر بأن المدرسة والبيت كائن واحد فى شارعين مختلفين
نسعد هنا ونسعد هناك نطمئن هنا ونطمئن هناك
نرى أهلنا هنا ونرى أهلنا هناك
فتدفعنا إلى المشاركة فى الأنشطة الطلابية المتنوعة دفعا يكمل الصورة البنائية للشخصية ,
فأذكر إشاركها لى فى رحلة إلى السويس بعد إعادة فتح القناة فى أعقاب حرب العاشر من رمضان
و مازالت آثار الحرب موجودة فى المنازل المدمرة
وآثار طلقات النيران التى ترتشق فى الجدران ,
أذكرها و كأنى أشاهدها الآن على جدران حى الأربعين
وتلك الدبابات الصهيونية والمصفحات المدمرة ,
ننظر إلى نجمتها السداسية وكأنها رمز الشر المطلق فندوس عليها بأقدامنا .
حرصت على أن نشارك فى أول رحلة مدرسية تتجه إلى سيناء بعد تحريرها
وكانت رحلة مؤلفة من طلاب من جميع المحافظات
كل محافظة يمثلها طالبان
حرصت على مشاركتنا فيها لنرى وطننا العائد إلى أحضاننا
لنرى صورة البطولات التى عشنا نسمعها و نشاهدها بخيالاتنا فى تلك الأحاديث المطربة والقصص اللطيفة بعبرها وعظاتها ,
نراها حقيقة مشاهدة فى الكون ومناظره ليستنير الذهن وتفيض المشاعر .
كانت تطلب إلينا تسجيل مشاهداتنا وتلخيص قراءاتنا لنفوز بجوائز قيمة
وما أسعد من يسجل قراءاته ومشاهداته فى خطاب يرسل إلى الوالد الكريم
فيفوز بهدايا رائعة عند عودته التى لم تغب طيلة سنى الغربة عن أربعة أشهر يعود بعدها ليقيم شهرا كثر أو قل - أحيانا –
فكنا نتسابق فى كتابة الخطابات
و يقف أخى الصغير حزينا لعدم قدرته على محاكاتنا
فتطلب أمــــى منه أن يرسم مايريد أن يناله من جوائز
فكنا نكتب خطابات بالحروف وأخرى بالرسوم
و الأجمل أن الوالد الكريم كان يحتفظ بها حتى يعود ليخرج كل خطاب برسمه ويمنح كل فرد ما طلبه
فنرى بسمة السعادة تتلألأ فى عينى أمى أن صنعت تلك الفرحة فى عيون أبنائها .
ما أعظمها من رحمة ما أعظمها من رقة ما أعظمه من عطف وحنان وبر بالأبناء .
لم تعتد أن تغيب عن البيت طويلا
فإن خرجت لشأن لها طلبت منا أن يسامر بعضنا بعضا ,
إلى أن حدث ما لم يتوقع منا ,
فقد قررنا أن نؤلف لعبة جديدة من ألعاب الاختباء ,
لكن لن نختبئ نحن بل على الواحد منا أن يخبِّئ أخانا الصغير فى غياب الآخر ليعود الثانى و يخمن فى أى الأماكن تم إخفاؤه على ألا تتعدى محاولات البحث ثلاث محاولات ,
فقام أحدنا بإخفاء أخينا فى دولاب الوالدة المغلق بعد ان أخرج مفتاحة من مخبئه
وخرج لينادى الآخر فانشغلا بصديق نادى عليهما لينسيا أمر الحبيس
حتى سُمع صوت بكاء قادم من الشقة يخبر أنه قام بكسر الدولاب!!!!!
حاولنا إخفاء معالم الجريمة لكن هيهات أن نستطيع ذلك

فقد فصل ظهر الدولاب عن مقدمته وكسر الباب
فما أن وصلت أمــــى حتى رأت باب الدولاب مفصولا
فأخبرها أخونا -الذى كان قد عاهد على الصمت - بما صدر منا .
استفهمت الأمر منه ثم طلبت أخى الأكبر وحادثته منفردا
ثم دعتنى لتخبرنى بعواقب الأمر إن لم يقدر على كسر الدولاب
فشعرت بعقاب معنوي بإشعارى بمدى الألم الذى قد يصيبنا إن فقدنا أخانا الصغير الذى نحبه أو أصابه مكروه بسببنا ,
فازداد حبنا لأخينا حتى بقينا ندافع عنه ضد كل من تسول له نفسه أن يؤذيه فى الشارع
فما هو إلا نداء استغاثة واحد يطلقه حتى يجد أحدنا ناصره ضد عدوه ثم سامعا الشكوى بعد ذلك .

ومن ذلك الرجل العجوز الذى يأتى بعربة هدايا كل عام إلينا ؟ وماذا كانت تحوى تلك العربة ؟ وما مصير هذه الهدايا ؟



السبت، 27 سبتمبر 2008

أمــــى7

أمــــى7
رسخت فى نفسها معانى الصبر على الطاعة
و الثبات على الأخلاق و الإرادة العالية فى تحقيق الأهداف
و فكرة الحق و الخير .
علت بأسلوبها التربوى
و طريقتها العملية فى غرس القيم
فأحالت الصور الخيالية واقعا ملموسا أمام أبنائها
حتى لا تبقى سبيلا لتعقيد الطبع أو كذب الخلق
و حتى لا تصرف أبناءها إلى حياة الأحلام و الطيش و الفراغ
و لتظل القوة النفسية للأبناء عالية سامية ترى الواقع على حقيقته .
نسمع منها تلك القصص و الحكايات
و نعايشها نراها على حقيقتها
نسمع ما يقال على ألسنة أصحابها
و نرى كل الحياة المحيطة بهم
نستشعر أحاسيس الأبطال
و نخوض المعارك خلفهم ممسكين بأسلحتهم و أقلامهم وكتبهم
و نخاطب أهلهم و نعاملهم .
تتوالى الإسقاطات التاريخية على حياتنا و على مجتمعنا مطرا من تلك القصص و الحكايات
فنحياها أكثر و نتذوق عبق الحياة الحقيقية فيها
, فمع تنوعها : دينية و تاريخية و واقعية و شعبية
لم تبد كلها إلا واقعا نحياه و نعيشه
و أمى مع ذلك تدفع إلينا بالقصص لقراءتها .
كانت تصطحبنا أو تدفعنا إلى ذلك المكان الرائع أمام ظلال الأشجار الوارفة على شاطئ النهر – وقتذاك -
إلى المكتبة العامة بالمدينة
و التى ضمت طابقا سفليا ضخما
أعد خصيصا لمثل هذا السن
مزودا بعدد لا يحصى من القصص و الكتب و المجلات المصورة
التى تبدو كبحر رائق ممتع
يغرى من يراه ليسبح فيه
, فكنا نخوض عبابه الهادئ
و نرسو على جوانبه اللينة
ليقص كل واحد منا ما قرأه على الآخرين
بطريقته و بأسلوبه
, و تتابع أمينة المكتبة هذه القصص و هذه الحكايات بابتسامة
لا أذكر من شخصها إلاها .
عرفنا حقيقة الواقع و ميزنا بينه وبين الخيال الهش
فلم يلتبس علينا خيال قط
بل نصنع الخيال لعبا نهزأ بها .
كان الناس يتحدثون عن العفاريت
و عن أماكنها وتصرفاتها
فنسمع ذلك و نضحك
فلا نخشى السير فيما لا يسيرون فيه
و لا نخشى البقاء فيما لا يبقون فيه
فعشنا طفولتنا كلها فائزين فى الألعاب التى تعتمد على الاختباء
, لاختبائنا فى أماكن يخشى أقراننا الذهاب إليها
حتى وصل الأمر مرة إلى تحدى البعض لى فى حقيقة ظهور هذه المخلوقات من عدمه
, ذلك حينما بدأ عفريت يظهر للصبية فى بعض طرقات الشارع المظلمة
فيولون الأدبار أمامه .
علمت أمــــى أننى أنا من يلعب دور العفريت
بعد أن رأت هذا الوجه المخيف مخبأ بين ثنايا الفراش !!!
فإذا بها تحاورنى فى الأمر مخبرة إياى
أننى بذلك قد أفقد قضيتى
بل لعلى أكدت فكرة ظهور العفاريت
و أعلمتنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ترويع الناس
كما أن هذا المضطرب المفزوع قد يدفعه رعبه إلى فعل شئ يدفع به ضرر العفريت الذى فى مخيلته عن نفسه
مما قد يصيبنى بأذى
و طلبت منى الاستفادة من الأمر
و الاكتفاء بما حدث
و إخبار الجميع بالحقيقة
حتى أثبت رأيى و أوضح ما هم عليه من خطأ فى الفهم .
أما فى رمضان فالحال مغايرة
فكل القصص محمدية
وكل الأوقات تعبدية
لم نرها تطعم شيئا أبدا فى نهار رمضان
وكأنها صائمة أيام الشهر جميعها
فحرصت على ألا يراها أبناؤها مفطرة صغارا غير مدركين
أو كبارا واعين
حتى ظل هذا ديدنها فى أخريات عمرها
فمع اشتداد مرضها تصوم صابرة محتسبة
و تقوم ليلا بين ثنايا الظلام
تصلى إلى الله ركعات
لا يراها فيها غيره و هذا الابن المشاكس الذى لا يفتأ ينظر أمه على كل حال ممكن .
كانت تجمع أبناءها فى نهار رمضان
تقص عليهم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم و أصحابه
و تبقى جزءا شيقا يربطهم به
و ما زالت تترجم كل جانب عملى يمكن للأبناء تطبيقه
فها نحن نسمعها فنرى الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا فى بطحاء مكة اللافح
لا يمنعه الحر من الصلاة
و خارجا للحرب وهو صائم
لا يمنعه الصوم من الخروج
و حاملا الحجارة و التراب يعمل أعمالا شاقة فى حفر الخندق و هو جائع
لا يمنعه الجوع من القيام بتلك الأعمال .
نرى تلك الصور فيزداد صبرنا على الصوم
و ترنو نفوسنا إلى تقليده
فيخرج أحدنا إلى الشارع ليقف أمام الشمس
ليحاول أن يشعر بما شعر به الرسول
و يمسك آخر بكوب ماء يصبه أمامه
ليرى الماء وهو ظمىء كما حدث لبلال و هو صابر على أذى المشركين .
حتى إذا ما أقبلت العشر الأواخر من رمضان
تطلب منا الذهاب إلى المعتكف فى المسجد
لنصلى فى جوف الليل ركعات مع المعتكفين
و لم يكن الشعور الدينى قد ساد - كما هو الآن –
فالمعتكفون لا يزيدون عن شخصين أو ثلاثة ممن طال عليهم العمر فطلبوا الرحمة من الخالق بقيامهم
, يمتاز أحدهم بابتسامة رقيقة
تخاطبنا دونما ألفاظ
كأنها تدعونا إلى المكث فى المسجد وقراءة القرآن .
مثلت فطائر العيد عقيدة راسخة فى أذهان النساء فى تلك المجتمعات
, فكانت تجمعهن حول إعدادها لتتخذها مدخلا لدفعهن إلى القيام والدعاء فى هذه الأيام المباركة
فيجتمعن فى رحابها تنصحهن وتوجهن
, يدها تسبق أيديهن إلى إعداد الفطائر
و خبرتها تبرع عليهن
فينتظرن توجيهاتها ليفزن بتلك الخبرة
فتطلب منهن الوضوء قبل بداية العمل
بعد أن تسبقهن إليه وتقوم بين الحين و الحين للصلاة
ثم تجلس لتطلب من واحدة أو اثنتين القيام للصلاة
و تدعو الله أن يوفقهن فى صنعتهن
ثم تتوالى بالدعاء بين الحين و الحين ليؤمنّ خلفها
تدعو بدعاء خفيف مما يسهل عليهن فهمه وترديده
و يظل الأمر هكذا حتى يؤذن للفجر
ثم ترسل الألواح إلى الفرن لتعود برائحتها الناضجة الشهية ذات الطعم الخاص .
وتبقى الأيام الأخيرة كلها هكذا
, كل يوم فوج من النساء,
منهن من أتين بالأمس
و منهن من لم ياتين
لينال أكبر عدد ممكن مما تنشره من رحمة و ليفزن بالصلاة و الدعاء فى كنف الرأفة .
_____
كيف كانت المذاكرة تتم ؟
وما قصة خطابات الرسومات ؟
كيف عالجت مشكلة اختناق طفلها الصغير ؟وما العقاب الواقع على المتسبب ؟

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

أمــــى6

أمـــى 6
عاشت عظيمة تملأ عينيها من الكتب والقراءة
لتحيل ما تقرؤه سلوكا عمليا وخلقا إجتماعيا يتلألأ بنور الإيمان والمعرفة
, أدركت أن عظمتها ليست فى شخصها فقط ,
بل فيما تبثه فى نفوس أبنائها من رحمة وقوة و نور هداية وكفاية روح
ليصيروا أعظم قدرا و أعلى مكانة .
كانت لها مجالسها الخاصة معنا تفتح ذاك العقل

و هذا القلب لتُسرى معانى المعرفة و تنشر روح السكينة و الطمأنينة على عقولنا و قلوبنا
فنأنس بالجلوس إليها و نحب البقاء معها
ونستمتع بالمكث فى رحاب أفكارها
فتخرج قراءاتها فى صورة عملية
فتصنع لنا نماذج بنائية من
أوراق الدفاتر القديمة
وأغطية المياه الغازية و بعض المشابك الخشبية
وبعض الخامات الأخرى التى تشتريها فى طريق عودتها من عملها
, لتأخذ تلك المكونات أشكالا متعددة

, منها الدور و منها القصور و منها الكراسى و الأسرّة
والمناضد و الأخونة و أمتعة أخرى متعددة .
وتحرص مع هذا علي أن نلعب مع أقراننا فى أمكان اللعب المعروفة فى الحى

أوفى تلك الحديقة التى كانت تنتصف المدينة آنذاك
, لكن رغبتنا إذا اشتدت فى البقاء مع الأصدقاء تذوب إذا وافقت رغبة استكمال البناء التى تجذبنا لنعود إلى أكنافنا
, فلم يمنعنا هذا عن ذاك و لا ذاك عن هذا .
كنا نتبارى فى صنع هذه النماذج لينال الفائز منا جائزته

فبدأت تظهر براعة كل فرد فى صناعة نوع من أنواع النماذج .
ظلت تدفعنا إلى التفكير العملى لنطبق ما نتعلمه بشكل واقعى ملموس

فمادتى الحساب و الهندسة لم تشكلا عقبة دراسية فى يوم من الأيام
فنحن الذين نحسب ما تم شراؤه من حاجيات المنزل ونقارن أسعار اليوم بأسعار الأمس

ونحسب نفقاتنا بالعملات المختلفة و نمارس الهندسة قبل أن نتعلمها فى المدرسة .
أما أكبر متعة لنا ذلك حين يشتد الهجير و يسكن كلٌ إلى بيته

و تجلس أمى إلينا لتلاعبنا لعبة " البلدان "
وهى لعبة تعتمد على حفظ أكبر قدر من أسماء المدن و البلدان
وتبدأ بذكر شخص لاسم دولة أو مدينة "حسب الاتفاق "
وعلى الشخص التالى أن يذكر اسما بادئا بحرف مطابق لآخر حرف من الاسم السابق
و المتعة هنا تكمن فى البحث والاستعداد للعبة لا فى ممارستها فقط .
فقد منحت كل فرد منا كتابا للبحث " أطلس "

وهو كتاب مصور بصور ملونة وخرائط مفصلة
و يضم معجما مفهرسا لأسماء البلدان


فصرنا نعكف على البحث عن أسماء المدن وأماكنها
ونتفنن فى البحث عن حرف غالق للعبة
و تدفعنا إلى الاحتكام إلى الكتاب إذا ما شك أحدنا فى إجابة الآخر .
رغّب هذا كله عقولنا فى البحث وحب العلم

حتى بدأ كل منا يحلم حلمه فحلمت أن أصبح عالما فى الهندسة الكهربائية
وما يتعلق بها من كيمياء
حتى إذا ما حصلت على درس " العمود البسيط "
عدت من المدرسة فرحا مسرورا لا أفكر إلا فى شىء واحد هو القطبين السالب و الموجب
فتفتقت العبقرية عن أول اختراع
وهو أن أحول المذياع الذى يعمل بالحجارة إلى مذياع كهربائى وفى البيت هذا وذاك !!
فعرضت الفكرة على أمى بعد أن شرحت لها درس اليوم

فنظرت إلىّ نظرة عميقة ثم سألتنى سؤالا لم أفهمه
لكن رغبتى فى الإسراع بالتجربة دفعتنى إلى الرد عليها بالإيجاب " نعم "
فطلبت منى أن أنتظر حتى تصنع شيئا

ثم اتجهت إلى لوحة التحكم الكهربائية
و قامت بتغيير سلك المنصهر إلى سلك ضعيف
ظانة أنه قد ينقذ الجهاز إذا ما حدث خطأ
, ثم أعلنت موافقتها لعرض عملىّ للفكرة ,
فجمعتُ البيت حول السفرة و أحضرتُ مفك الاختبار

و أريتُ الجميع القطب الموجب هو يضىء المفك
ثم قمت بتوصيل سلكا كهربائيا إلى موضع إشارة الموجب فى المذياع
وآخر إلى السالب والكل منتبه ثم وضعت القابس
فحدث الإنفجار!!
..وانطفأ نور المنزل كله فأسرعت أمــــى إلى المنصهر وأصلحته

ثم طلبت منى أن أتجه إلى الكهربائى لأسأله عما حدث من أخطاء
فذهبت إليه و أخبرنى أن هناك درسا يوضح شيئا اسمه المحول لم أدرسه بعد !!
فتذكرت سؤال أمى الذى لم أتريث فى الإجابة عليه :
" هل ركبت المحول فى الجهاز ؟!!"
لم نكن نجالس القوم فى سهراتهم فالجهد الذهنى فى تلك الألعاب

و الصناعات والأفكار و الاختراعات
و الجهد البدنى فى اللعب مع الأقران
كافيان لدفعنا إلى النوم مبكرا
فأرى الزائرين أشباحا داخلة
و أشباحا خارجة
رءوسا تجلس
ورءوسا تقوم
_________
ماذا كان حالها معنا فى رمضان ؟
ولماذا تحرص على صنع فطائر العيد ليلا؟!!
وما قصة ذلك الشبح المتردد على بعض طرقات الشارع ؟ وماذا كان دورها هى معه ؟

الخميس، 11 سبتمبر 2008

أمــــى5

أمــــى5

لم تتعلق بظواهر الأشياء بل تدخل إلى كُنهها لتدرك ما وراءها و تكشف عن حقيقة أسرارها ,
أدركت حقيقة الدنيا وما بها من زيف مادى مغر فلم تتعلق نفسها بها ,
بل تحكمت فى متطلبات دنياها ,
فلم تدع الدنيا تغريها بكثرة ما تطلب من البشر ,
جعلت الدنيا تطلب منها ما تريد هى أن تمنحها إياه
فجعلت تلك الحياة المادية حياة بحث عن الآخرة
فتحررت من قيد المادة التى تملك قلوب البشر ؛
فملكتها هى و جعلتها عبدة ذليلة فى يديها
فسمت بروحها عن أسر المادة لها ,
ملكت المال وجادت به جود الرياح مدركة أنا ما ذهب إلى الله باق عنده نامٍ فى خزائنه
فأكرمها الله بما تجود به طول حياتها .
كانت تمنح بعض جاراتنا لحما , و تمنحهن العظام أحيانا لتخفى عنهن ما تطعمنا إياه
فتوهمهن أنها تطبخ مثلهن فلا يتأذين برائحة طبخ صادرة عنا ,
و لتَسُل ما قد يداخل نفوس البعض من الحسد .
و رغم ما فى الأمر من مراعاة لشعور الجيران إلا أنها كانت تفعل ذلك وهى كارهة ,
فكانت تشتاق إلى أيام العطاء الكاملة
فتنتظر المواسم و الأعياد بفرح و حبور لم أر سرورا على وجه أحد كهذا السرور الذى أراه على وجهها فرحا بتلك الأيام ؛
فتعلقنا بها كتعلقها بها تماما
و نكاد نحصيها كإحصائها لها إلا أننا نعجز عن تمام الإحصاء ,
لأنها كانت تفتعل مواسم بل و تحصى مواسم جاراتها من النصارى لينلن من ذلك العطاء .
ولكل موسم جماله ورونقه الذى يميزه و طعامه الذى يبرزه
فتبدو عاشوراء ببُرها المطحون طحنا خفيفا
ويبدو مولد النبى بحلواه
و يطل رجب و يمر السابع و العشرون منه بأقمشته وملابسه
وينتصف شعبان ببقل البيت
و يهل رمضان بما تبقى من مخزون البقل
و تأتى الأيام الأخيرة من رمضان بالدقيق وصدقة الفطر و بالملابس الجديدة
ثم يهل العيد لتوزع الفطائر " كعك العيد "
وفى كل هذه المناسبات يبقى اللحم عطاء ثابتا حتى إذا ما أقبل عيد الأضحى جاز العطاء حدود البقاء بكثير
فالأقسام الثلاثة لم تتساو عندنا فى يوم من الأيام ,
يتساوى قسمان كبيران ويبقى قسم ضعيف هين ,
فنرى بشاشة الوجه و طلاقته تبدو بنور رائع فى عينىّ أمـــى حين تعد تلك الأطعمة
لا يغضها إلا لمحات حزن خفيفة أن أبقت شيئا وكأنها تريد إخراج الأنصبة كلها ,
و ما أسعد من يحمل هذه الآنية إلى أصحابها ؛
لأنه يحمل سعادة تغمره فى ذهابه و إيابه .
لم يكن عطاؤها عطاء ماديا صِرفا بل روحيا يحمل كل نصائح الإيمان الكاملة ويستثمرها ,
شعرت أنها تحمل رسالة ذات تكاليف عظيمة تريد أن ترسلها إلى الإنسانية كلها ,
مدركة أن محاولة إيجاد التوازن الإنسانى هدف من أهداف دينها الذى يحرك حياتها .
و بقت المناسبات الخاصة بالأسر أسرارا غامضة
فلم نكن نرى ما تحمله إلا لمام النظرات
فلعلنا نلتقط صورة ظرف مملوء بالمال
أو حقيبة مملوءة بالملابس .
و يظل البيت مفتوحا فى الصيف حتى ينتصف الليل و هو وقت انتهاء الإرسال التلفزيونى تقريبا فى تلك الفترة من الزمن فيفد الناس أفواجا , فوج لرؤية المسلسل , و أفواج للسهرة على اختلافها .لتتخذ فتيات الشارع و أطفاله وبعض نسائه مواضع فى الصالة لتلك المشاهدات .
________________________
هل كنا نجالس الناس فى السهرة ؟
متى كانت تجلس أمنا معنا ؟
وما هذه النماذج البنائية الصغيرة التى تنتشر فى أرجاء البيت ؟
و ما قصة الاختراع ؟ و ما دخل الكهربائى فيه ؟

الاثنين، 21 يوليو 2008

أمــــى4

أمــــى 4
وتبقى ملابسنا جزءاَ من حياتنا حتى إذا ما أضحى مآلها إلى غيرنا ,
نفاجأ بحقيبة كبيرة تخرج من تحت سرير الوالدين وتعرض أمى ملابسنا الجديدة التى أرسلها الوالد من سفره أو اشتراها لنا فى فترة إقامته معنا ,
و يبدأ كل فرد منا فى اختيار ما طلب شكله و لونه آنفا ,
و بين لحظات السعادة والفرح تخبرنا أمنا أننا لم نعد فى حاجة إلى تلك الملابس القديمة و علينا أن نعطيها لخالقنا الذى أرسلها لنا ,
فخالقنا الذى يسّر العمل للوالد يأمرنا أن نتصدق بها لمن يحتاجها ,
و لن يقبل الله تلك الصدقة منا إلا إذا أنكرنا معرفتنا لهذه الملابس حين رؤيتها على أجساد الآخرين ,
فنفعل ذلك متمنين من الله أن يمنحنا ثوابا عظيما ,
و ظل بعضنا يتفاخر على بعض أنه لم ينظر إلى ملابسه التى يرتديها فلان أو فلان ,
حتى تعاظم الأمر فى نفوسنا فصرنا لا نذكرها مطلقا .
كانت لها نفس معطاءة من هذه النفوس النادرة التى ترى السعادة فى إسعاد الآخرين ,
فالدنيا فى نظرها أيكة عظيمة أصاب بعضهم أوراقها و بعضهم ثمارها و ظل بعضهم عالقا فى أغصانها لم يحظ بشىء إلا الارتفاع الشكلى والعلو المكانى ,

بينما بقى البعض عاجزا عن الصعود مكتفيا بالنظر إلى من هم أعلى منه ,
عاشت تحسب أن رحمة رقاب هؤلاء هى سبب لبقاء من علا فى علوه ,
و من يجحد نعمة ربه و لم يشكرها , يهو من فوق الأيكة فيصب و يفتقر ؛
فشُكر الله سبب لدوام النعمة و زيادتها .
فصنعت من بيتها بيتا للفقراء والمساكين ,
تطعمهم و تسقيهم دون أن تشعر أحدهم بغربة المكان أو الأشخاص ,
فكان الباب مفتوحا على مصراعيه حقيقة لا مجازاَ , ما دمنا فى فصل الصيف ,
و لا يغلق إلا مواربة وقت الظهيرة و إغلاقا تاما بعد منتصف الليل .
أما إذا أقبل الشتاء فهو مفتوح على مصراعيه مجازا ,
فلا يغلق فى وجه أحد مطلقا .
كان الحى الذى نسكن فيه حيا شعبيا وهى ابنة الأكابر , لكنها لم تشعر أحدا فى يوم من الأيام بغربتهم عنها أو بغربتها عنهم .
اتخذ أهل الشارع الذى نقطن فيه مواضع ثابتة لآنيتهم فى ثلاجتنا ,
فهى الثلاجة الوحيدة فى الشارع التى تصلح لتلك المهمة آنذاك ,
بل لعلها فى الحى كله ,
فكان لكل أسرة ممن لا يملكون ثلاجات إناء للمياه معروف شكله معروفة أوصافه ,
و بقيت أنا من ينظم أمر الآنية , فإذا تشابهت الآنية أحكم بينهم ,
فلا أضع آنية متشابهة إلا وقد كتبت أسماء أصاحبها عليها فلا يختلف اثنان أبدا ,
و تبدو كلمات الشكر و التقدير الموجهة إلىّ من أمـــى كالنسيم الرقيق والنغمة العذبة ,
فأشعر بالزهو و السعادة أن استطعت أن أقدم شيئا نافعا .
أشعرتنا بأن هذا هو حق للجار و ليس فضلا منا على أحد و حين تجالسنا و تنصحنا تخبرنا قائلة : " النبى أوصى على سابع جار " فترسخ هذا الأمر فى نفوسنا فبدأنا نعد الجيران و نخبرها بأن فلانا وفلانا قد جاوزا السبعة ,
فتقول : " سبعة بيوت وليست شقق " ,
فنعود إليها بعد فترة وقد أحصينا الناس إحصاء دقيقا بالشقق وبالبيوت ,
فتبتسم بسمة رقيقة و تجارينا فى العد و الإحصاء ثم تخبرنا
" أن وصية النبى تشمل أربعين جارا " ,
فنعود مدركين أن حقوق الناس لم تكتمل بعد و لكنا نريد ثلاجة غير هذه !!


حرصت على إطعامنا غذاء متكاملا ,
منوعة فى الأطعمة مخبرة إيانا بفائدة كل نوع و ما يشتمل عليه من فيتامينات وأثرها على أجهزة الجسم كلها ,
فكان لها شأن غريب فى طبخ وإعداد الطعام
وكانت تصطحب معها إلى السوق حقيبة عجيبة لا يستطيع أحد أبدا أن يدرك ما تحمله .
وقد صاحبتها إلى السوق الذى لم يكن يبعد عن ناصية شارعنا إلا بيتين ,
صاحبتها مرات عدة فتمر على الجزار تودع عنده الحقيبة ليضع فيها ما طلبته ,
وترجع بعد شرائها متطلباتها واضعة إياها فوق اللحم .
فإذا اشترت لحما أحضرت معه عظاما !!! لتمنح بعض جيراننا تارة لحما وتارة عظاما ,
فأعجب أشد العجب من إعطائها الجيران عظاما ,
و أقول لها : لماذا لا تعطيهم لحما فى كل مرة ؟

فتعود إلىّ إجابتها صمتا يشير إلى قصة ضخمة لا تريد إطلاعى عليها بعد .
وإن اشترت فاكهة اختلفت نصائحها لنا باختلاف نوعيتها ,
فإن كانت الفاكهة مما يتناوله أهل الحى نصحتنا بعدم الخروج بها أمام الناس ,
و إن لم تكن كذلك تصبح النصائح أكثر تشديدا والمراقبة مستمرة حتى ينتهى أثر الفاكهة من بيتنا ,
فكأن هذا النوع من الفاكهة لم يدخل البيت مطلقا , فهى فاكهة خفية ,
أما الفاكهة الظاهرة , فهى ما يأتى بها زائر لنا حاملا إياها أمام مرأى أعين الناس ,
فتصير من نصيب أهل الشارع مهما كان نوعها ويبقى للفرد منا نصيبه أيضا .
___________________
لماذا تشترى العظام ؟؟!!
ولماذا تهدى بعضهم منها دون اللحم أحيانا ؟
لماذا لايغلق باب الشقة صيفا قبل الثانية عشرة مساء بالتحديد؟
ولماذا كانت تحب المواسم و تحصيها وتنتظرها ؟

الاثنين، 7 يوليو 2008

أمــــى3

أمـــــى 3
كانت زياراتها لصديقاتها قليلة نادرة , على غير عادات النساء فى مجتمعاتنا أو عادات جاراتها معها ,
و بقيت فى مجملها عيادة لمريضة , أو تلبية لدعوة , أو تخفيفا لآلامِ ثكلى ,
أو ليس هذا و لا ذاك بل اصطناعا لتقديم مساعدة . فهى صابرة مُؤْثِرة تؤثر صاحباتها على نفسها .
تنظر إلى نهاية كل أمر و هى ما تزال فى بدايته فتزن الأمور بميزانها السليم ,
و تقدر لكل شىء قدره ,
فإذا اصطحبت أحدنا فى زيارة , أعدت برنامجه إعدادا مسبقا , ما الذى سيراه ؟
وما الذى سيسمعه ؟
وما الفكرة التى ستوجه إليه ؟
وما القيمة التى سيرجع بها ؟


وبقيت التوجيهات المقدمة فى الطريق بعيدة كل البعد عن هذا المسمى " توجيهات " بعيدة كل البعد فى الشكل و الاحساس , قريبة كل القرب فى المضمون و السلوك ,
فتظل الحوارات خلال الطريق تلمس تلك الأهداف التى تعمل على تحقيقها ,
فتخبرنى قصة أو تذكرنى بموقف وتطلب رأيى ,
وتسرد الأسئلة بطريقة تشعرنى بقيمة الإجابة التى لايمكن أن تدور إلا فى فلك ما حرصت هى على بلوغه ,
فتبدو إجاباتى وكأنها أفكار نابعة من داخلى ,
والحقيقة أنها أفكار داخلة إلى نفسى , تترسخ فيها لتكوّن جزءا من الشخصية .
حتى إذا ما وصلنا إلى تلك الصديقة دار الحوار الأول معها حول هدف الزيارة ,
ثم سؤالها عن أبنائها لأصير مرافقا لهم ,
فإن غابوا اقتصر الحوار حول ما دار فى البداية ,
فإن فاتحت المَزورة أمى فى أمر آخر أعادت أمى دفة الحديث إلى ما كان عليه ,
ثم ينفرط عقد الحديث سريعا ثم ننصرف .
وتختلف زيارة جاراتها لها كل الاختلاف ,
تأتى إحداهن وقد علت وجهها عبسة , وتعود وقد علاه البشر والطلاقة ,
فإذا ما جاءت الزائرة استضافتها أمى فى حجرة الصالون
وهى تحمل طفلتها الرضيعة معها أو تاركة إياها مع أحدنا ليؤنسها ,
و تخرج بين الحين والحين لتعد شايا أو عصيرا أو لتفتح دولابها ,
فتخرج بعض أكياس الملابس وتعود بها إلي زائرتها ,
أو لتفتح الضلفة الوسطى فى نفس الدولاب وتدلف يدها فى جيب حقيبتها لتخرج بعض النقود وتعود بها إليها ,

أو تدخل إلى مطبخها وتحمل شيئا من خزينها فتمنحها إياه ,
وكنت أرقب هذه الأمور كلها فأسألها , فتخبرنى بأنها أشياء تخص زائرتها ,
إلا إذا تعلق الأمر بملابسنا القديمة فعندها الحوار يختلف و يختلف المشهد تماما .
فبدت أمى فى عطائها نبتة , ربيعها دائم , لا تحتفظ بغذاء تربتها لنفسها فتفسد ,
بل تحيله إلى أوراق و زهور و ثمار تُظل و تمتع وتشبع من حولها .
ظلت روحها الدينية غالبة عليها ,
تمنحها قوة تنزهها عن التعلق بالمادة الزائلة و تربطها بما هو باق ,
فارتفعت نفسها بطبيعتها ,
ليتساوى لديها التبر و التراب فى مدلولاتهما المادية .فلا ترى التبر تبرا إلا إذا أحيل إلى فكرة عطاء و بذل,
حينها يصير تبرا .
_________________________
فيم يختلف حوارها معنا عندما يتعلق الأمر بمصير ملابسنا القديمة ؟
و ما التغيير الذى يحدث فى المشهد ؟
و ما قصة الثلاجة الوحيدة ؟
و ما تلك الفواكه الخفية ؟
الإجابة فى المرة القادمة إن شاء الله

الأحد، 29 يونيو 2008

أمــــى2


أمــــى2

عيناها تمتلآن بأفكار وخطط تبدو ملامحها فى تتابع نظراتها وتلهفها على إرضاء نفوس أطفالها وانتظارا لارتوائهم وشبعهم لتحمل حقائبهم جملة واحدة ثم تطلب من كل فرد أن يحمل حقيبته .
تنظر إلى كل فرد من أبنائها الثلاثة بوجهها وقلبها وبجسمها كله , حتى يأخذ حقيبته من يدها فتلتفت إلى الآخر, ثم الثالث حتى يحملوا جميعا حقائبهم ,
فتنظرهم نظرة حانية تمتلئ ابتساما وحبورا, وتبدأ فى وضع الطعام فى الحقائب ,




لكن نفوس الأبناء تتعلق بنظرات سائلةٍ عن نوع الطعام , فتدرك الأم ما تسأل عنه عيون أبنائها , فتخبر بأنه الطعام اليومى ,
و يبقى التبرم المتصل من نوعية الطعام الذى نصطحبه إلى المدرسة فيتذمر أحدنا ,
إن لم يكن أخى الأكبر أعلن أنا تذمرى ,
وإن كف كلانا عنه , يظل أخونا الصغير ضاغطا على أسنانه وقد أطال شفته السفلى عن العليا قليلا ,
و يبقى كلامها الهادىء الذى لا يداخله الملل ولا يعتريه اليأس ولا يميل ولا يتحول و لم تكل من ترديده معنا
" يجب أن يكون طعامكم مماثلا لطعام زملائكم و من يرد أن يأكل أى نوع آخر فليأكله قبل خروجه إلى المدرسة , فالسفرة ممتلئة "
ثم تطلب منا ترديد الدعاء
" توكلت على الله "
و تدعونا إلى أخذ الحيطة من الطريق وعدم تغييره أثناء المسير ,
فننصرف رضى من رضى أو استرضى من استرضى .
ثم تعود إلى مطبخها لتستكمل ما بدأته من تجهيزات الغذاء فتسكت الأوانى وتضع لمسات السحرالإيمانى فى طعامها لنذوق طعم الحب والرحمة ممتزجة بلذة الطعام .
ثم تتجه نحو أوراقها وحقيبتها اللتان قد أعدتهما فى ليلتها الفائتة ,
لتحملهما متجهة هى وصاحباتها إلى المدرسة التى تعملن بها خارج المدينة سائرة على قدميها مع قدرتهاعلى دفع أجرة العربة التى تقلها ,
فكانت الدهشة تعترينا ,
فلما مر بنا الزمن كنت أتحين الفرصة بعد الأخرى فى حواراتى معها لتفسر لى بعض الأمور وكان منها هذا التصرف ,
فإذا بتلك النفس الكريمة الراضية التى تعرف معنى السعادة الحقيقية ,
والتى تدرك أن السعادة فى نفس الإنسان ليست فى الفضة والذهب ولا فى القصور والبساتين ,
فإذا بها تهمس فى أذنى بسر من أسرار الرضا قائلة :
" لم تكن صاحباتى تقدرن على ثمن أجرة العربة "
فيخفق قلبى لهذه المعانى الربانية ,
وتقشعرّ جوارحى ,
وتبقى عيناى عالقتين إلى وجهها لتستمدا منه نور الذوق والفضيلة الإيمانية ,
فاحترام شعور الناس جزء من شخصيتها .
وكنا ندرك ذلك حين نصاحبها فى زيارة إحداهن .
...................................................
كيف كانت زيارتها لصديقاتها تتم ؟
ولماذا كانت جاراتها يأتين إليها وقد علت وجوههن عبسة ويعدن وقد علتها طلاقة وبشر ؟
ولماذا لم تكن تجلسنا معهن فى حواراتها ؟
الإجابة فى المرة القادمة إن شاء الله

الثلاثاء، 24 يونيو 2008

أمــــى

بسم الله الرحمن الرحيم
أمــــى

عندما يدنو الفجر بنسماته العليلة التى تداعب الوجه وتحنو برقة وعذوبة وترتسم صورة الصوت الحانى على الكون و تشعرالنفس بالأنس والسرور والغبطة والبهجة , عند تلك اللحظة تبدو صورة أمى بنضارة شبابها وحيويتها ونظرتها التى تملأ الكون تحديا ورغبة فى الصدق مع الخالق , تتحرك بخفة ورفق تفتح باب الغرفة علينا لتلفنا بنظرات حانية تحرسنا , تخرج من البيت وقد تركت تلك النظرات وهذه الروح لتؤنسنا فى أخريات نومنا حتى ترجع وما نظن أنها خرجت لرفقها مع كل شىء كى تظل روحنا هادئة مطمئنة حتى تعود من السوق وقد ابتاعت ما شاء الله لها أن ترنو به إلينا من إفطار و وممتطلبات الغذاء
نستيقظ على كلمات الحب والوداعة والسرور " النهار ده جميل جدا " " الله على الشمس النهارده " هل شاهدتم حبات المطر الجميلة ؟ " بابا أرسل خطابات بالأمس من يريد قراءتها ؟ "
ترفرف قلوبنا رغبة فى الطير فى أكناف ما تدعونا إليه وتتحرك أفئدتنا طلبا للحصول على ذلك المشهد أو تلك الصورة اومعرفة هذا الحدث أو قراءة هذا الخطاب أو ......تنداح الرغبة فى استكمال النوم , ونحدر الأغطية عن أجسادنا حتى لنحب اليقظة والإفاقة ونفرح بهما .
أول ما تلمس أقدامنا سجادة الصلاة وقد أفردت فى الصالة على باب الحجرة لتقع أعيننا أول ما تتفتح عليها فتتطلع نفوسنا إلى الصلاة عليها حتى نحصل على إفطارنا المعد على السفرة فنجتمع عليه أو ننتظر لننقله إلى الخوان الأرضى " الطبلية " فنجتمع لتناوله .
عيناها تمتلآن بأفكار وخطط تبدو ملامحها فى تتابع نظراتها وتلهفها على إرضاء نفوس أطفالها وانتظارا لارتوائهم وشبعهم لتحمل حقائبهم جملة واحدة ثم تطلب من كل فرد أن يحمل حقيبته
لكن لماذا تحمل هى تلك الحقائب مادامت ستعطى كل واحد حقيبته ......وما هذه الحقيبة التى على النضد ؟ وما الأوراق التى عليها ؟ وما تلك الأصوات الخفيفة الآتية من المطبخ ..؟
نستكمل فى المرة القادمة .