الجمعة، 26 يونيو 2009

أمــــى 9

أمــــى 9

حرصت على بر الوالدين و الأهل والأقارب تسأل عن القاصي و الداني تتنسم أخبارهم وتودهم فلم تترك مناسبة إلا و يبرز لها فيها دور حتى صارت حِب الأهل جميعا يتمنون لقاءها و زيارتها و الألفة بالجلوس إليها وتحرى مناسباتها .
غير أنها لم تكن تطلعهم على مضار الزمان معها فلم يدر أحد شيئا عن هموم الزمان و أوجاعه وكأن حياتها رمز لخلو الدنيا من الهموم و الآلام , رأيت تلك الكلمات على ألسنة بعضهم بعدما طال بهم الزمن كيف يعجبون من أمرهم صغارا يستمعون إليها تَسُلُّ ما فى نفوسهم من آلام الدهر وتمنحهم تجارب الحياة التى تواسيهم وتساعدهم ولم يسألوها عن حياتها وهمومها ظنا منهم أن حياتها خالية من هذه الألوان لأنها لم تشك ألما مر بها قط .

رأينا فرح الأهل بها فى فرحهم بنا فى المناسبات المختلفة وفى استقبالهم لنا وفى كلمات الإطراء التى تصل بنا إلى حد الخجل أحيانا وفى مبالغة الكثير منهم معنا في مظاهر الكرم التي كانت رمزا لأسرتها وعائلتها.
اعتاد جدها زيارتها كل عام أو عيد يأتى راكبا عربة خاصة يجرها جواد أبيض يقودها له رجل شديد السواد ذو زى خاص , تأتى خلفها عربة أخرى تحمل أجولة السمسم و السوداني وأشياء أخرى مما تنبت الأرض .
و مصير ما يأتى هو نفس مصير كل هدية مرئية مع الاحتفاظ بنسبة نستمتع بها في سهرات الشتاء .
يخرج أهل الشارع جميعا لمشاهدة الموكب ونسرع نحن لاستقبال جدنا لنفوز بالإمساك بعكازه العجيب فيدعنا نفعل ذلك فنصطحبه من الشارع حتى الدور الثاني ممسكين بعكازه وهو متكىء عليه فما أن يدعه حتى نتصارع على الإمساك به فتحاول أمى منعنا إلا أنا نركن إلى جدنا الذي يجيز لنا الأمر .
كنا نأنس بمجلسه الجميل نرى أمي تقبل يد جدها وتجلس إلى جواره يحدثها سائلا إياها عن أحوالها وحياتها وداعيا لها بدوام الخير , تجلس إليه في خشوع ترد برفق جميل مطمئنة إياه عنها و عنا وعن والدي الكريم ؛فيبسم محياه بسمة رقيقة حانية تبرز الرضا حتى لنشعر نحن به ثم يخرج من جيبه مالا غزيرا قائلا لأمي أعطيه لمن ترين أنه محتاج , فتحاول أن تخبره بحالات بعضهن و أظننى لم أجده مرة منتبها إلى الأسماء قدر اهتمامه بالحالات ومدى قدرة المال في سد احتياجاتها .

ولما انقضت حياته ظلت أمـــى تترحم عليه حياتها كلها تجمع بين ترحمها عليه و بين ترحمها على جدى لأبى .
فقد صنعت مع هذا الجد - جدى لأبى - صداقة أثارت بعض الأحقاد عليها لكن الحكمة الحسنة تعرف كيف تَسُلُّ الحقد وتحيل نظرتها إلى بسمة .
كانت تنتظر قدومه وتعد له مجلسه الخاص تسرع إلى إعداد ما يحبه من شراب وتتركه لكتابه الذى يقرؤه أو لدوريته التى يتابعها أو لجريدته التى يتصفحها , ثم تأتى إليه وتجلس إلى جواره كالقط الآنس بصاحبه تبادله الحديث فى الفكر أو العلم أو الثقافة أو الفن فتصغى إليه إصغاء الطالب إلى أستاذه وتحاوره محاورة العالم لصديقه فيفيض عليها من خبرة حياته وثقافته ما يجعل القلب مملوءا بالخير الدائم .
أخبرتنى عن بعض حواراتها معه وعن رقة قلبه وقوة صبره وحلمه ومدى ثقافته وعلمه وكأنها تريد أن تقول هكذا يجب أن تكون الزوجة الأم مع حميها صورة الحب مستأنسا بقلب الرحمة حتى تشع رحمات الحب على البيت فيصبح مهيئا لدوره التربوى دون عناء يذكر .
يظلان هكذا حتى تأتى جدتى التى لم تخف غيرتها الرقيقة والجميلة من هذا المجلس لكن أمـــى حاضرة الذهن لهذا الموقف فتتلقاها بمداعبات رقيقة تبرز مكانتها فى قلبها و تستنكر عليها الغيرة وهى صاحبة الجمال والعينين الزرقاوين فتضحك باسمة ثم تصاحبهما المجلس حتى يأتى وقت ذهابهما إلى بيتهما الذى كانا يعتدان به .

لم ينته الحديث عنهما برحيلهما إلى بيتهما بل تبقى أمــــى تقص علينا قصصا من قصص البطولات عنهما فتحكى عن جدودهما " فقد كانا ابنى عم " كيف كانت مقاومتهم للصليبين وعن دورهم الذى قاموا به فى معركة المنصورة وتقص الخبر وكأنها كانت حاضرة بينهم " ثم عبروا البحر الصغير ... ثم صعدوا التل ...ثم هاجموا الخطوط الخلفية للصليبين ...ثم .... "" و تربط بين الماضى والحاضر قائلة : أتذكر الجامع الكبير فى القرية ؟ إنه فوق ذلك التل الذى صعدوه . أتذكر الهويس الذى خلف القرية ؟ إنه ذلك المكان الذى عبروا منه ..هؤلاء هم من يحبون أوطانهم ... وتهم بقول شىء فعله جدى ثم تحجم وهكذا يبقى الأمر فى كل مرة تقص فيها قصص بطولات الأهل تهم بقول شىء خاص بجدى ثم تحجم ....حتى جاء يوم تربط فيه هذه القصص بالحاضر القريب وكيف كان المصريون يقاومون الإنجليز وكيف كانوا يفكون قضبان السكك الحديدية وإذا بلسانها يخبر عن حدث قام به الجد لكن تحجم إحجام المحافظ على السر رغم مرور الزمن ثم تعمم القضية قائلة هكذا فعل المصريون .
هل كانت تعرف الموسيقى ؟ وهل وافقت على تعلمنا إياها ؟ وما علاقة الموسيقى بمادة الدراسات فى نظرها ؟؟