السبت، 27 سبتمبر 2008

أمــــى7

أمــــى7
رسخت فى نفسها معانى الصبر على الطاعة
و الثبات على الأخلاق و الإرادة العالية فى تحقيق الأهداف
و فكرة الحق و الخير .
علت بأسلوبها التربوى
و طريقتها العملية فى غرس القيم
فأحالت الصور الخيالية واقعا ملموسا أمام أبنائها
حتى لا تبقى سبيلا لتعقيد الطبع أو كذب الخلق
و حتى لا تصرف أبناءها إلى حياة الأحلام و الطيش و الفراغ
و لتظل القوة النفسية للأبناء عالية سامية ترى الواقع على حقيقته .
نسمع منها تلك القصص و الحكايات
و نعايشها نراها على حقيقتها
نسمع ما يقال على ألسنة أصحابها
و نرى كل الحياة المحيطة بهم
نستشعر أحاسيس الأبطال
و نخوض المعارك خلفهم ممسكين بأسلحتهم و أقلامهم وكتبهم
و نخاطب أهلهم و نعاملهم .
تتوالى الإسقاطات التاريخية على حياتنا و على مجتمعنا مطرا من تلك القصص و الحكايات
فنحياها أكثر و نتذوق عبق الحياة الحقيقية فيها
, فمع تنوعها : دينية و تاريخية و واقعية و شعبية
لم تبد كلها إلا واقعا نحياه و نعيشه
و أمى مع ذلك تدفع إلينا بالقصص لقراءتها .
كانت تصطحبنا أو تدفعنا إلى ذلك المكان الرائع أمام ظلال الأشجار الوارفة على شاطئ النهر – وقتذاك -
إلى المكتبة العامة بالمدينة
و التى ضمت طابقا سفليا ضخما
أعد خصيصا لمثل هذا السن
مزودا بعدد لا يحصى من القصص و الكتب و المجلات المصورة
التى تبدو كبحر رائق ممتع
يغرى من يراه ليسبح فيه
, فكنا نخوض عبابه الهادئ
و نرسو على جوانبه اللينة
ليقص كل واحد منا ما قرأه على الآخرين
بطريقته و بأسلوبه
, و تتابع أمينة المكتبة هذه القصص و هذه الحكايات بابتسامة
لا أذكر من شخصها إلاها .
عرفنا حقيقة الواقع و ميزنا بينه وبين الخيال الهش
فلم يلتبس علينا خيال قط
بل نصنع الخيال لعبا نهزأ بها .
كان الناس يتحدثون عن العفاريت
و عن أماكنها وتصرفاتها
فنسمع ذلك و نضحك
فلا نخشى السير فيما لا يسيرون فيه
و لا نخشى البقاء فيما لا يبقون فيه
فعشنا طفولتنا كلها فائزين فى الألعاب التى تعتمد على الاختباء
, لاختبائنا فى أماكن يخشى أقراننا الذهاب إليها
حتى وصل الأمر مرة إلى تحدى البعض لى فى حقيقة ظهور هذه المخلوقات من عدمه
, ذلك حينما بدأ عفريت يظهر للصبية فى بعض طرقات الشارع المظلمة
فيولون الأدبار أمامه .
علمت أمــــى أننى أنا من يلعب دور العفريت
بعد أن رأت هذا الوجه المخيف مخبأ بين ثنايا الفراش !!!
فإذا بها تحاورنى فى الأمر مخبرة إياى
أننى بذلك قد أفقد قضيتى
بل لعلى أكدت فكرة ظهور العفاريت
و أعلمتنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ترويع الناس
كما أن هذا المضطرب المفزوع قد يدفعه رعبه إلى فعل شئ يدفع به ضرر العفريت الذى فى مخيلته عن نفسه
مما قد يصيبنى بأذى
و طلبت منى الاستفادة من الأمر
و الاكتفاء بما حدث
و إخبار الجميع بالحقيقة
حتى أثبت رأيى و أوضح ما هم عليه من خطأ فى الفهم .
أما فى رمضان فالحال مغايرة
فكل القصص محمدية
وكل الأوقات تعبدية
لم نرها تطعم شيئا أبدا فى نهار رمضان
وكأنها صائمة أيام الشهر جميعها
فحرصت على ألا يراها أبناؤها مفطرة صغارا غير مدركين
أو كبارا واعين
حتى ظل هذا ديدنها فى أخريات عمرها
فمع اشتداد مرضها تصوم صابرة محتسبة
و تقوم ليلا بين ثنايا الظلام
تصلى إلى الله ركعات
لا يراها فيها غيره و هذا الابن المشاكس الذى لا يفتأ ينظر أمه على كل حال ممكن .
كانت تجمع أبناءها فى نهار رمضان
تقص عليهم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم و أصحابه
و تبقى جزءا شيقا يربطهم به
و ما زالت تترجم كل جانب عملى يمكن للأبناء تطبيقه
فها نحن نسمعها فنرى الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا فى بطحاء مكة اللافح
لا يمنعه الحر من الصلاة
و خارجا للحرب وهو صائم
لا يمنعه الصوم من الخروج
و حاملا الحجارة و التراب يعمل أعمالا شاقة فى حفر الخندق و هو جائع
لا يمنعه الجوع من القيام بتلك الأعمال .
نرى تلك الصور فيزداد صبرنا على الصوم
و ترنو نفوسنا إلى تقليده
فيخرج أحدنا إلى الشارع ليقف أمام الشمس
ليحاول أن يشعر بما شعر به الرسول
و يمسك آخر بكوب ماء يصبه أمامه
ليرى الماء وهو ظمىء كما حدث لبلال و هو صابر على أذى المشركين .
حتى إذا ما أقبلت العشر الأواخر من رمضان
تطلب منا الذهاب إلى المعتكف فى المسجد
لنصلى فى جوف الليل ركعات مع المعتكفين
و لم يكن الشعور الدينى قد ساد - كما هو الآن –
فالمعتكفون لا يزيدون عن شخصين أو ثلاثة ممن طال عليهم العمر فطلبوا الرحمة من الخالق بقيامهم
, يمتاز أحدهم بابتسامة رقيقة
تخاطبنا دونما ألفاظ
كأنها تدعونا إلى المكث فى المسجد وقراءة القرآن .
مثلت فطائر العيد عقيدة راسخة فى أذهان النساء فى تلك المجتمعات
, فكانت تجمعهن حول إعدادها لتتخذها مدخلا لدفعهن إلى القيام والدعاء فى هذه الأيام المباركة
فيجتمعن فى رحابها تنصحهن وتوجهن
, يدها تسبق أيديهن إلى إعداد الفطائر
و خبرتها تبرع عليهن
فينتظرن توجيهاتها ليفزن بتلك الخبرة
فتطلب منهن الوضوء قبل بداية العمل
بعد أن تسبقهن إليه وتقوم بين الحين و الحين للصلاة
ثم تجلس لتطلب من واحدة أو اثنتين القيام للصلاة
و تدعو الله أن يوفقهن فى صنعتهن
ثم تتوالى بالدعاء بين الحين و الحين ليؤمنّ خلفها
تدعو بدعاء خفيف مما يسهل عليهن فهمه وترديده
و يظل الأمر هكذا حتى يؤذن للفجر
ثم ترسل الألواح إلى الفرن لتعود برائحتها الناضجة الشهية ذات الطعم الخاص .
وتبقى الأيام الأخيرة كلها هكذا
, كل يوم فوج من النساء,
منهن من أتين بالأمس
و منهن من لم ياتين
لينال أكبر عدد ممكن مما تنشره من رحمة و ليفزن بالصلاة و الدعاء فى كنف الرأفة .
_____
كيف كانت المذاكرة تتم ؟
وما قصة خطابات الرسومات ؟
كيف عالجت مشكلة اختناق طفلها الصغير ؟وما العقاب الواقع على المتسبب ؟

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

أمــــى6

أمـــى 6
عاشت عظيمة تملأ عينيها من الكتب والقراءة
لتحيل ما تقرؤه سلوكا عمليا وخلقا إجتماعيا يتلألأ بنور الإيمان والمعرفة
, أدركت أن عظمتها ليست فى شخصها فقط ,
بل فيما تبثه فى نفوس أبنائها من رحمة وقوة و نور هداية وكفاية روح
ليصيروا أعظم قدرا و أعلى مكانة .
كانت لها مجالسها الخاصة معنا تفتح ذاك العقل

و هذا القلب لتُسرى معانى المعرفة و تنشر روح السكينة و الطمأنينة على عقولنا و قلوبنا
فنأنس بالجلوس إليها و نحب البقاء معها
ونستمتع بالمكث فى رحاب أفكارها
فتخرج قراءاتها فى صورة عملية
فتصنع لنا نماذج بنائية من
أوراق الدفاتر القديمة
وأغطية المياه الغازية و بعض المشابك الخشبية
وبعض الخامات الأخرى التى تشتريها فى طريق عودتها من عملها
, لتأخذ تلك المكونات أشكالا متعددة

, منها الدور و منها القصور و منها الكراسى و الأسرّة
والمناضد و الأخونة و أمتعة أخرى متعددة .
وتحرص مع هذا علي أن نلعب مع أقراننا فى أمكان اللعب المعروفة فى الحى

أوفى تلك الحديقة التى كانت تنتصف المدينة آنذاك
, لكن رغبتنا إذا اشتدت فى البقاء مع الأصدقاء تذوب إذا وافقت رغبة استكمال البناء التى تجذبنا لنعود إلى أكنافنا
, فلم يمنعنا هذا عن ذاك و لا ذاك عن هذا .
كنا نتبارى فى صنع هذه النماذج لينال الفائز منا جائزته

فبدأت تظهر براعة كل فرد فى صناعة نوع من أنواع النماذج .
ظلت تدفعنا إلى التفكير العملى لنطبق ما نتعلمه بشكل واقعى ملموس

فمادتى الحساب و الهندسة لم تشكلا عقبة دراسية فى يوم من الأيام
فنحن الذين نحسب ما تم شراؤه من حاجيات المنزل ونقارن أسعار اليوم بأسعار الأمس

ونحسب نفقاتنا بالعملات المختلفة و نمارس الهندسة قبل أن نتعلمها فى المدرسة .
أما أكبر متعة لنا ذلك حين يشتد الهجير و يسكن كلٌ إلى بيته

و تجلس أمى إلينا لتلاعبنا لعبة " البلدان "
وهى لعبة تعتمد على حفظ أكبر قدر من أسماء المدن و البلدان
وتبدأ بذكر شخص لاسم دولة أو مدينة "حسب الاتفاق "
وعلى الشخص التالى أن يذكر اسما بادئا بحرف مطابق لآخر حرف من الاسم السابق
و المتعة هنا تكمن فى البحث والاستعداد للعبة لا فى ممارستها فقط .
فقد منحت كل فرد منا كتابا للبحث " أطلس "

وهو كتاب مصور بصور ملونة وخرائط مفصلة
و يضم معجما مفهرسا لأسماء البلدان


فصرنا نعكف على البحث عن أسماء المدن وأماكنها
ونتفنن فى البحث عن حرف غالق للعبة
و تدفعنا إلى الاحتكام إلى الكتاب إذا ما شك أحدنا فى إجابة الآخر .
رغّب هذا كله عقولنا فى البحث وحب العلم

حتى بدأ كل منا يحلم حلمه فحلمت أن أصبح عالما فى الهندسة الكهربائية
وما يتعلق بها من كيمياء
حتى إذا ما حصلت على درس " العمود البسيط "
عدت من المدرسة فرحا مسرورا لا أفكر إلا فى شىء واحد هو القطبين السالب و الموجب
فتفتقت العبقرية عن أول اختراع
وهو أن أحول المذياع الذى يعمل بالحجارة إلى مذياع كهربائى وفى البيت هذا وذاك !!
فعرضت الفكرة على أمى بعد أن شرحت لها درس اليوم

فنظرت إلىّ نظرة عميقة ثم سألتنى سؤالا لم أفهمه
لكن رغبتى فى الإسراع بالتجربة دفعتنى إلى الرد عليها بالإيجاب " نعم "
فطلبت منى أن أنتظر حتى تصنع شيئا

ثم اتجهت إلى لوحة التحكم الكهربائية
و قامت بتغيير سلك المنصهر إلى سلك ضعيف
ظانة أنه قد ينقذ الجهاز إذا ما حدث خطأ
, ثم أعلنت موافقتها لعرض عملىّ للفكرة ,
فجمعتُ البيت حول السفرة و أحضرتُ مفك الاختبار

و أريتُ الجميع القطب الموجب هو يضىء المفك
ثم قمت بتوصيل سلكا كهربائيا إلى موضع إشارة الموجب فى المذياع
وآخر إلى السالب والكل منتبه ثم وضعت القابس
فحدث الإنفجار!!
..وانطفأ نور المنزل كله فأسرعت أمــــى إلى المنصهر وأصلحته

ثم طلبت منى أن أتجه إلى الكهربائى لأسأله عما حدث من أخطاء
فذهبت إليه و أخبرنى أن هناك درسا يوضح شيئا اسمه المحول لم أدرسه بعد !!
فتذكرت سؤال أمى الذى لم أتريث فى الإجابة عليه :
" هل ركبت المحول فى الجهاز ؟!!"
لم نكن نجالس القوم فى سهراتهم فالجهد الذهنى فى تلك الألعاب

و الصناعات والأفكار و الاختراعات
و الجهد البدنى فى اللعب مع الأقران
كافيان لدفعنا إلى النوم مبكرا
فأرى الزائرين أشباحا داخلة
و أشباحا خارجة
رءوسا تجلس
ورءوسا تقوم
_________
ماذا كان حالها معنا فى رمضان ؟
ولماذا تحرص على صنع فطائر العيد ليلا؟!!
وما قصة ذلك الشبح المتردد على بعض طرقات الشارع ؟ وماذا كان دورها هى معه ؟

الخميس، 11 سبتمبر 2008

أمــــى5

أمــــى5

لم تتعلق بظواهر الأشياء بل تدخل إلى كُنهها لتدرك ما وراءها و تكشف عن حقيقة أسرارها ,
أدركت حقيقة الدنيا وما بها من زيف مادى مغر فلم تتعلق نفسها بها ,
بل تحكمت فى متطلبات دنياها ,
فلم تدع الدنيا تغريها بكثرة ما تطلب من البشر ,
جعلت الدنيا تطلب منها ما تريد هى أن تمنحها إياه
فجعلت تلك الحياة المادية حياة بحث عن الآخرة
فتحررت من قيد المادة التى تملك قلوب البشر ؛
فملكتها هى و جعلتها عبدة ذليلة فى يديها
فسمت بروحها عن أسر المادة لها ,
ملكت المال وجادت به جود الرياح مدركة أنا ما ذهب إلى الله باق عنده نامٍ فى خزائنه
فأكرمها الله بما تجود به طول حياتها .
كانت تمنح بعض جاراتنا لحما , و تمنحهن العظام أحيانا لتخفى عنهن ما تطعمنا إياه
فتوهمهن أنها تطبخ مثلهن فلا يتأذين برائحة طبخ صادرة عنا ,
و لتَسُل ما قد يداخل نفوس البعض من الحسد .
و رغم ما فى الأمر من مراعاة لشعور الجيران إلا أنها كانت تفعل ذلك وهى كارهة ,
فكانت تشتاق إلى أيام العطاء الكاملة
فتنتظر المواسم و الأعياد بفرح و حبور لم أر سرورا على وجه أحد كهذا السرور الذى أراه على وجهها فرحا بتلك الأيام ؛
فتعلقنا بها كتعلقها بها تماما
و نكاد نحصيها كإحصائها لها إلا أننا نعجز عن تمام الإحصاء ,
لأنها كانت تفتعل مواسم بل و تحصى مواسم جاراتها من النصارى لينلن من ذلك العطاء .
ولكل موسم جماله ورونقه الذى يميزه و طعامه الذى يبرزه
فتبدو عاشوراء ببُرها المطحون طحنا خفيفا
ويبدو مولد النبى بحلواه
و يطل رجب و يمر السابع و العشرون منه بأقمشته وملابسه
وينتصف شعبان ببقل البيت
و يهل رمضان بما تبقى من مخزون البقل
و تأتى الأيام الأخيرة من رمضان بالدقيق وصدقة الفطر و بالملابس الجديدة
ثم يهل العيد لتوزع الفطائر " كعك العيد "
وفى كل هذه المناسبات يبقى اللحم عطاء ثابتا حتى إذا ما أقبل عيد الأضحى جاز العطاء حدود البقاء بكثير
فالأقسام الثلاثة لم تتساو عندنا فى يوم من الأيام ,
يتساوى قسمان كبيران ويبقى قسم ضعيف هين ,
فنرى بشاشة الوجه و طلاقته تبدو بنور رائع فى عينىّ أمـــى حين تعد تلك الأطعمة
لا يغضها إلا لمحات حزن خفيفة أن أبقت شيئا وكأنها تريد إخراج الأنصبة كلها ,
و ما أسعد من يحمل هذه الآنية إلى أصحابها ؛
لأنه يحمل سعادة تغمره فى ذهابه و إيابه .
لم يكن عطاؤها عطاء ماديا صِرفا بل روحيا يحمل كل نصائح الإيمان الكاملة ويستثمرها ,
شعرت أنها تحمل رسالة ذات تكاليف عظيمة تريد أن ترسلها إلى الإنسانية كلها ,
مدركة أن محاولة إيجاد التوازن الإنسانى هدف من أهداف دينها الذى يحرك حياتها .
و بقت المناسبات الخاصة بالأسر أسرارا غامضة
فلم نكن نرى ما تحمله إلا لمام النظرات
فلعلنا نلتقط صورة ظرف مملوء بالمال
أو حقيبة مملوءة بالملابس .
و يظل البيت مفتوحا فى الصيف حتى ينتصف الليل و هو وقت انتهاء الإرسال التلفزيونى تقريبا فى تلك الفترة من الزمن فيفد الناس أفواجا , فوج لرؤية المسلسل , و أفواج للسهرة على اختلافها .لتتخذ فتيات الشارع و أطفاله وبعض نسائه مواضع فى الصالة لتلك المشاهدات .
________________________
هل كنا نجالس الناس فى السهرة ؟
متى كانت تجلس أمنا معنا ؟
وما هذه النماذج البنائية الصغيرة التى تنتشر فى أرجاء البيت ؟
و ما قصة الاختراع ؟ و ما دخل الكهربائى فيه ؟