الجمعة، 12 ديسمبر 2008

أمــــى8

أمــــى8
ظل أنسنا بالجلوس إليها أنسا بالحديث والسمر
أو سرد القصص و ضرب الأمثال ممزوجا بأنس القدوة الصالحة
فقبل أن تطلب إلينا الجلوس إلى المذاكرة أو القراءة و البحث تعد كتبها و مراجعها و أوراقها و تنظمها تنظيما دقيقا
يعجب من يراها شاخصة أمام عينيه أو من يرى سطورها الأنيقة المنمقة
فنحاكيها فى القراءة و التنميق والبحث و التدقيق ,

فلا تبذل جهدا فى دفعنا إلى المذاكرة
بل يبقى الجهد فى المتابعة و التوجيه
فمع انشغالها بالقراءة والكتابة لم تكن فى الحقيقة إلا منشغلة بنا
فما يتعسر معسر فى أمر إلا بادرت إليه قبل أن يطلب ,
وكأنها ترى بعينيها ما تقرؤه وترى بطرفها ما نطرقه .
صنعت لكل واحد منا مجلسه ومنضدته الخالية إلا مما يقرؤه أو يدونه فى دفتره
ترتفع أمام أعيننا لوحات ورقية لمعلومات علمية متنوعة
فكنا نحفظها و لما ندرسها بعد لمشاهدتنا لها صباح مساء
فهذه لوحة جسم الإنسان التى حُفرت صورتها فى أذهاننا
فلم يختلط علينا من جسم الإنسان شئ حينما بدأنا ندرسه
بل إن أخى الأكبر أرجع فضل حفظه لمكونات جسم الإنسان فى كلية الطب إلى فهمه إياها من تلك اللوحة الراسخة فى ذهنه ,

و تطل الأرفف فوق اللوحات ممتلئة بالمجلات العلمية والثقافية المصورة
وكأنها نسخة مصغرة من مكتبة المدينة .
لم يقتصر دورها فى غرس العلم على المذاكرة فى البيت
بل ظلت زياراتها لنا فى مدارسنا تتعاقب بشكل شبه دوري
فقبل أن نفتقدها تأتى الزيارة تلو الأخرى ,
حتى نشعر بأن المدرسة والبيت كائن واحد فى شارعين مختلفين
نسعد هنا ونسعد هناك نطمئن هنا ونطمئن هناك
نرى أهلنا هنا ونرى أهلنا هناك
فتدفعنا إلى المشاركة فى الأنشطة الطلابية المتنوعة دفعا يكمل الصورة البنائية للشخصية ,
فأذكر إشاركها لى فى رحلة إلى السويس بعد إعادة فتح القناة فى أعقاب حرب العاشر من رمضان
و مازالت آثار الحرب موجودة فى المنازل المدمرة
وآثار طلقات النيران التى ترتشق فى الجدران ,
أذكرها و كأنى أشاهدها الآن على جدران حى الأربعين
وتلك الدبابات الصهيونية والمصفحات المدمرة ,
ننظر إلى نجمتها السداسية وكأنها رمز الشر المطلق فندوس عليها بأقدامنا .
حرصت على أن نشارك فى أول رحلة مدرسية تتجه إلى سيناء بعد تحريرها
وكانت رحلة مؤلفة من طلاب من جميع المحافظات
كل محافظة يمثلها طالبان
حرصت على مشاركتنا فيها لنرى وطننا العائد إلى أحضاننا
لنرى صورة البطولات التى عشنا نسمعها و نشاهدها بخيالاتنا فى تلك الأحاديث المطربة والقصص اللطيفة بعبرها وعظاتها ,
نراها حقيقة مشاهدة فى الكون ومناظره ليستنير الذهن وتفيض المشاعر .
كانت تطلب إلينا تسجيل مشاهداتنا وتلخيص قراءاتنا لنفوز بجوائز قيمة
وما أسعد من يسجل قراءاته ومشاهداته فى خطاب يرسل إلى الوالد الكريم
فيفوز بهدايا رائعة عند عودته التى لم تغب طيلة سنى الغربة عن أربعة أشهر يعود بعدها ليقيم شهرا كثر أو قل - أحيانا –
فكنا نتسابق فى كتابة الخطابات
و يقف أخى الصغير حزينا لعدم قدرته على محاكاتنا
فتطلب أمــــى منه أن يرسم مايريد أن يناله من جوائز
فكنا نكتب خطابات بالحروف وأخرى بالرسوم
و الأجمل أن الوالد الكريم كان يحتفظ بها حتى يعود ليخرج كل خطاب برسمه ويمنح كل فرد ما طلبه
فنرى بسمة السعادة تتلألأ فى عينى أمى أن صنعت تلك الفرحة فى عيون أبنائها .
ما أعظمها من رحمة ما أعظمها من رقة ما أعظمه من عطف وحنان وبر بالأبناء .
لم تعتد أن تغيب عن البيت طويلا
فإن خرجت لشأن لها طلبت منا أن يسامر بعضنا بعضا ,
إلى أن حدث ما لم يتوقع منا ,
فقد قررنا أن نؤلف لعبة جديدة من ألعاب الاختباء ,
لكن لن نختبئ نحن بل على الواحد منا أن يخبِّئ أخانا الصغير فى غياب الآخر ليعود الثانى و يخمن فى أى الأماكن تم إخفاؤه على ألا تتعدى محاولات البحث ثلاث محاولات ,
فقام أحدنا بإخفاء أخينا فى دولاب الوالدة المغلق بعد ان أخرج مفتاحة من مخبئه
وخرج لينادى الآخر فانشغلا بصديق نادى عليهما لينسيا أمر الحبيس
حتى سُمع صوت بكاء قادم من الشقة يخبر أنه قام بكسر الدولاب!!!!!
حاولنا إخفاء معالم الجريمة لكن هيهات أن نستطيع ذلك

فقد فصل ظهر الدولاب عن مقدمته وكسر الباب
فما أن وصلت أمــــى حتى رأت باب الدولاب مفصولا
فأخبرها أخونا -الذى كان قد عاهد على الصمت - بما صدر منا .
استفهمت الأمر منه ثم طلبت أخى الأكبر وحادثته منفردا
ثم دعتنى لتخبرنى بعواقب الأمر إن لم يقدر على كسر الدولاب
فشعرت بعقاب معنوي بإشعارى بمدى الألم الذى قد يصيبنا إن فقدنا أخانا الصغير الذى نحبه أو أصابه مكروه بسببنا ,
فازداد حبنا لأخينا حتى بقينا ندافع عنه ضد كل من تسول له نفسه أن يؤذيه فى الشارع
فما هو إلا نداء استغاثة واحد يطلقه حتى يجد أحدنا ناصره ضد عدوه ثم سامعا الشكوى بعد ذلك .

ومن ذلك الرجل العجوز الذى يأتى بعربة هدايا كل عام إلينا ؟ وماذا كانت تحوى تلك العربة ؟ وما مصير هذه الهدايا ؟